موضوع النص وقراءاته حقل متسع تتداخل فيه المدارس النقدية والمجالات الفكرية إلى حد التشعب والتعقيد. لذا فإننا سنقتصر من كل ذلك في سياقنا هذا على ركن مدقق محوره محاولة التنقيب عن الخلفيات التكوينية التي رسمت إطار النشأة التاريخية لعلم القراءة في العصر الحديث ومواكبته في مطلع القرن العشرين لجملة من التحولات النوعية في حقل العلوم الإنسانية.
حين أصدر أفلاطون حكمه بطرد الشعراء من جمهوريته الفاضلة فقد جاء ضمن إدانته الأخلاقية للأدب إشعار مبكر عن الأهمية الاستراتيجية للقارئ. نبه أفلاطون منذ زمن سحيق إلى أن الاتصال الأدبي يتحقق من خلال التأثير الذي يمارسه النص على القارئ وقد أفزعته القوة الهائلة للسلاح الأدبي الذي يتمثل في بلاغة الإقناع وهي تفرض عالماً وهمياً على المتلقي فيقع فريسة الخداع ولا يشك في مصداقية ذلك العالم. ثم رأى أفلاطون أن البعد التأثيري للوسيلة الاتصالية الأدبية يتجاوز حد التمويه بالمحاكاة ويصل إلى إثارة انفعالات غير مستحبة في المتلقي، فأستحق أن يقمع Plato1971,33-41
وأخذ الصدى الذي أحدثه هذا الهجوم على الشعر يتردد على مدى العصور، حيث تصدى الشعراء والنقاد لهذه الاتهامات مدافعين عن الأدب كأداة أخلاقية تهذب وتطهر الروح الإنسانية. فهو ليس مجرد متعة للحواس بل له فائدة اجتماعية قصوى لكونه قادراً على نقل الانفعالات المرتبطة بالمثل العليا، فنشأ البعد الإصلاحي للأدب. وعندما يدافع سير فيليب سيدني Sir Philip Sidney عن الشعر كالمحرك الأساسي للفضيلة فهو يضع اللوم على القارئ الذي يرى فيما يقرأ تصويراً للرذيلة فيندفع لارتكابها ليشبع أهواءه الخاصة (Sidney 1971,169). وكذلك عندما يصف ألكسندر بوب Alexander Pope سر انجذاب القراء للعمل الأدبي فيقول بأن ذلك يرجع إلى أن الشعر (يعيد إلينا صوراً موجودة في عقولنا) فهو بذلك يحدد مسؤولية القارئ وقدراته الشخصية في فهم معاني النص الأدبي (Pope 1971,281,line 300). ولم يكن الأدب ليتحرر من النزعة الإرشادية ولا كان النص ليعزل عن سياقه الاجتماعي لولا الموقف الجمالي من الفنون والذي صنف الإحساس بالجمال كقوة هائلة تسمو بالروح الإنسانية. حينها تدفق الفن من أجل الفن والأدب من أجل الأدب دون أن يستجدي قيمته وسبب وجوده داخل اعتبارات أخرى. من هنا بدأت مدارس النقد الجديد New Criticism بالانتباه إلى العمل لذاته فحسب وبقيت خلفياته التاريخية والاجتماعية والنفسية خارج حدود قيمته الفنية. وعلى الرغم من تركيز هذه المدارس شكلية كانت أو بنيوية على النص فقد فتحت المجال لإعادة تقديم القارئ كوظيفة وموقع للمعنى لا كيان مجرد وذلك بلفت الانتباه إلى النظام الداخلي للعمل الأدبي الذي يجعل المعنى ممكناً.
وقد شهد القرن العشرين كماً هائلاً من الإسهامات المنهجية التي تحاول التقنين لفنيات التحليل فتتعامل مع النص بوصفه مجموعة من الكلمات والجمل والعبارات التي يمكن إحصاؤها وحساب معدل تكرارها. وتبعاً لقوانين المنحى اللغوي التحليلي تكون مهمة القارئ في اكتشاف المركز النصي وتفسير التفاعل الذي يحصل بين عناصر النص المتعارضة من كلمات وأسلوب وصور وبناء وموضوع وغموض وسخرية.. وذلك في إطار نحوي صرفي وصوتي بحت. أما القارئ البنيوي فلا يهتم باكتشاف نمط اللغة وإنما يتعامل مع بنية النص وفقاً لمبدأ اعتماد الكل على الجزء وتفسير خصوصية النظام المهيمن على النسق العام للنص. ثم ظهرت منذ منتصف القرن وحتى نهاية السبعينيات نظرية استجابة القارئ Reader Response Theory التي اهتمت بالعلاقة بين النص والقارئ، وأثبتت مشاركات النقاد في هذه النظرية أن للنص قدرة وقابلية للتأويل المتعدد لا يمكن استهلاكها.
وعلى الرغم من أن إبراز حضور المتلقي ودوره في إعادة تشكيل النص بدأ مع مدارس النقد الحديث، إلا أن هذا الاستعراض السريع والبسيط لتطور نظريات النقد يثبت أن القارئ كان دائماً الشغل الشاغل للنقاد، وبما أن الأدب يعتمد على أدوات لغوية تثير انتباه القارئ لتستجيب لها، فإن تفاعل القارئ مع النص كان قد اقترن بعملية التأويل واقتران عملية القراءة بعملية الكتابة التي لا تتحقق إلا من خلال هذا الفعل الملازم لها. والقراءة توأم الكتابة وما كان لنص أن يكون بدون قارئ لأنه ليس تجريداً محضاً وليس تأملاً منطوياً على نفسه، بل إن النص يظل راكداً حتى ينفث فيه المتلقي حياة بفاعلية القراءة.
يرى رومان إنجاردن Roman Ingarden أن هنالك فرقاً بين النص كشيء أو وجود مادي، وبين تجسيد النص من خلال فعل القراءة التي تعطيه وجوداً فعلياً فيقول: (خلال القراءة نحاول أن نبعد أي مشاغل تلهينا عن التركيز. وهذا الابتعاد عن العالم الحقيقي إلى عالم منفصل يتحقق في مساحته استيعاب وعي النص ذاته) (Ingarden 1973, 355). كان القارئ ولازال طرفاً فاعلاً في أي عملية اتصال لغوية فهو ركن من أركان نموذج رومان جيكوبسون Roman Jackobson الذي صنفه على أنه متلقي رسالة المرسل. ومهما كان اتجاه العلاقة بين أقطاب معادلة الاتصال هذه فهنالك دائماً من يتكلم ليقول شيئاً ما يوجهه لشخص ما بشكل ما ولغرض ما. فالقراءة إذاً ما هي إلا محاولة فهم المحتوى والتعرف على المضمون وكشف المغزى الكامن في النص الأدبي.
أخذت منطلقات التناول النقدي لعملية القراءة على عاتقها مهمة الكشف عن عمليات التأويل التي يقوم بها القارئ وحل معضلة الاختلافات والفروق بين القراءات والتأويلات للنص الواحد. وعليه فنظريات القراءة لا تخرج عن دائرة استقصاء المعنى النصي، لذا فليس من المستغرب أن ترتبط تلك النظريات ارتباطا وثيقاً بالفلسفة الإبيستمولوجية Epistemological Philosophy التي تنص على أن كل ما يدركه الإنسان فهو بالضرورة خاضع لتفسيراته، وعلى الفلسفة الظواهرية Phenomenology التي تضع أهمية كبرى على دور المستوعب للأشياء في تحديد معانيها. وبالفعل فقد تدخل هذان المنظوران في البنية الأساسية للكثير من نظريات القراءة بهدف الإجابة على سؤال محير: ما الذي يحدث خلال القراءة في عقل القارئ الواعي المتأمل للنص فيعطيه المعاني التي تثريه؟
في سعيها وراء تحديد مصادر المعنى، راحت نظريات قراءة النصوص الأدبية تدور في أربعة محاور رئيسية: