تقترح هذه المداخلة المتواضعة، تحسس المفاهيم التأسيسية الأولى التي أدت بعد مساق زمني طويل بالشعر الديني إلى الصورة التي سنقرأها في مدونة بيئات كثيرة شكلت تراثنا الشعري الديني في تمظهرات مكانية وزمانية عديدة، ومن ثم سنحاول متابعة تحولات العنصر الديني المشكّل للشعر العربي الديني القديم، من خلال أداءات متباينة في تكويناتها الفنية، وفي المنظومات الفكرية التي توجهها.
لا يبدو عنصر الدين للوهلة الأولى حاضرا بقوة في الشعر الجاهلي، فقد غاب عن سلّم الأغراض الشعرية المعروفة والموروثة، والمتأصلة في صورة منظومات وأنساق، سيرسخها النقد العباسي بعقلانيته وتصنيفيته. لكن بعض القراءات الحديثة التي راضت النص الشعري الجاهلي بمقاربات حديثة، أولت في بحثها داخل طبقات النص أهمية ملفتة للدين، فقد لا تكون الوثنية مجرد طقوس وشعائر ساذجة لم تؤطر حياة الجاهلي وتنظمها، بل ربما انبثقت الممارسة الفنية في الأصل عنها كما يلاحظه عدد من الباحثين(1).
فالفن والدين أو الطقوس عموما، مرتبطان ببعضهما في النشأة، فالدين - كما يقول دني هويسمان - "هو ألف الجمالية وياؤها، فالفن يبدأ وينتهي بالمقدس... وهو درجة من درجات الصعود نحو المطلق، غير أنه قد يكون المرحلة الأوفر ثبوتا والوسيلة الأشد صلابة التي وقع عليها الإنسان لتجسيد المثالي في الواقعي، والإلهي في الإنساني"(2)، وكان الشاعر الفرنسي رونسار يقول: "الشعر لم يكن أول عهده سوى لاهوت رمزي"(3).
وقد تكون بقايا الممارسة الدينية في الشعر العربي القديم حسب النتائج التي توصل إليها علي البطل(4)، واسعة الحضور في جسد النص، عن طريق بقاياها التي شكلت الصورة الفنية بالخصوص وكوّنتها. وقد تم - انطلاقا من هذا المنظور- الوقوف عند الصورة الدينية التي أسست صورة الإنسان في المدح والهجاء والحرب(5) بل والمرأة في الشعر الجاهلي، فهي صورة المرأة - الأم، أو الأم - المعبودة التي أخذت صورة البدانة، لتحقيق الشرط المثالي في نظرهم لوظيفة الأمومة والخصوبة الجنسية(6)، وقد عمد الشاعر إلى بناء الصورة في شكل نحت لتمثال متكامل للمرأة، بل كثيرا ما ربط بينها وبين التمثال والدمية الموضوعة في المحراب، مما يزيد في تقريب المسافة بين الحادث الفني وبين الأصل الديني، كما قال الأعشى(7):
وقد أراها وسط أترابها *** في الحي ذي البهجة والسامر
كدُمية صُـوّرَ محرابُها *** بمُذهَـب من مَرمَـر مَائــر
فالصورة التي وصلت أواخر العصر الجاهلي إلى الشعراء مفرغةً مما يتبعها من عقيدة وممارسات، ظلت تضمر المكونات الأساسية لصورة المرأة الإلهة في المعتقدات الوثنية. فالمرأة هنا صنم مصور في المحراب، ورغم أنها قريبة جدا من المدلول الديني، إلا أن التحليل ينصب في الأصل على معادل المعبودة في صور الطبيعة التي لازمت الشعر القديم بعد نقلها من العبادة والأسطورة، مثل النخلة والمهاة والغزالة وما إليها.
وقد يكون الأنسب لو وقف الباحث عند شعر يمكن اعتباره دينيا خالصا، والحق أننا لو استبعدنا بعض النصوص وبعض القطع المشكوك في صحة نسبتها أحيانا لدى أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل وعدي بن زيد العبادي وغيرهم(
، فإنه سيبقى أمامنا في الأساس مقطوعات استعملت في الممارسة الدينية نفسها، وعلى رأسها (التلبيات)، وهي ابتهالات وضراعات، تؤدى جماعيا غالبا لطلب العون أو في موسم الحج، مثل(9):
لبيـكَ يا مُعطي الأمِـرْ *** لبيك عن بنـي النَّمِـرْ
جئناك في العام الزّمِـر *** نأمـلُ غيــثـا ينهمر
يطـرقُ بالسيـل الخَمِـرْ
وقد تذكرنا التلبية بالهيكل العام للقصيدة الجاهلية، وللمدحة خاصة، كقولهم(10):
لبـيكَ ربَّ همــدان *** من شاحط ومن دان
جئناك نبغي الإحسان *** بكـل حـرف مِذعان
نطوي إليك الغيطـان *** نأمل فضـل الغفران
فالخطاب يتمحور حول التلبية التي تعني الاستجابة اللامشروطة وترمز إلى الخضوع، ويتمحور أيضا حول إبراز المعاناة من أجل الوصول إلى المعبود، مما يستوجب حقوقا لديه، سواء تعلقت بالغيث الذي يعيد الحياة من جديد أو بالإحسان والغفران، فهي كلها ممارسة روحية للتعبد أمام ما يفترض أنه قوة أعظم، ومحاولة للظهور أمامه بمظهر التقى والتسليم والأمل أيضا.
فإذا كان الشعر الديني لم يظهر على سلم الأغراض الشعرية في العصر الجاهلي وصدر الإسلام بالصورة التي انبثق عليها فيما بعد، فإن ذلك قد يجد تفسيره في مثل مستخلصات النقاد القدماء الذين فصلوا في الغالب بين مباشرة المعنى أو المفهوم الذهني الديني في صورته النثرية الذهنية (حتى ولو كانت في الشعر) وبين التناول الشعري البحت لها(11).
1 - المكون الديني والهوية:
يبدو أنه كان للقدماء تصور صحيح عن حركة المذاهب الفنية، فهم لا يرون العصر الإسلامي يبدأ إلا مع فترة بني أمية، أما فترة صدر الإسلام، فهي عصر المخضرمين، وربما كانت الفترةُ مخصصة لاستيعاب الدين الجديد؛ ولذا لم يظهر أدب ديني خالص (بل وإسلامي)، وربما كان ذلك أيضا بسبب ربط الأدب أساسا بوظيفة رسمت مسبقا تتمحور حول الدفاع عنه وعن الدعوة. فوجود المعاني الإسلامية الجديدة في المقطوعات الموروثة عن تلك الفترة، لا يبرر التسليم بوجود أدب ديني مستقل كغرض، بل يشير فقط إلى توجه نحو التفاعل مع المنظومة العقائدية الجديدة ومدونتها الفكرية واللغوية والنصية. فليس غريبا إذن ألا يظهر شعر وعظي ديني مثل الذي سنلقاه لدى شعراء الزهد، رغم وجود تجارب بسيطة لكنها جد متواضعة فنيا، كقول النابغة الجعدي(12):
الحمـد لله لا شـريـكَ له *** مَن لم يقُلها فنفسَه ظلم
المُولجُ الليلَ في النهار وفي *** الليل نهـارا يُفرّج الظلم
الخافض الرافع السماء على *** الأرض ولم يبْنِ تحتها دعم
فهذا نظم ذهني لمجموعة من النصوص، هي في الأصل عناصر من المنظومة الاعتقادية الإسلامية، ويغيب فيها العنصر الشعري أو التأملي ولا يبقى إلا النظم. إلا أن الوعظ هو الخيط الرفيع الذي تأسست حوله، وسيدور عليه المقطع الأخير، وحوله أيضا، ومن أجله، سيتأسس شعر الزهد فيما بعد.
لكن المكوّن الديني لم يكن غائبا تماما داخل التشريع الفني الجاهلي الذي استمر سائدا، بل إن تأثيرات المنظومة الفكرية والعقائدية الجديدة على بعض تشكّلات المعنى وعلى اللغة كانت واضحة، لكن عنصر الدين في بداية الإسلام ارتبط بالهوية وسط الصراع بين ضفتين أو معسكرين، فإذا كان تمايز الهويتين من الناحية الفنية غير ممكن، فإن الدين سيشكّل الهوية الجديدة لمجموعة تقاتل من أجل الوجود، فالمسألة السياسية لا تجد تعبيرا ممكنا لها إلا في نطاق الصراع الديني، ومن ثم يأخذ أهمية خاصة في النص الشعري.
لقد كتب حسان بن ثابت يقول بعد مقدمة في وصف الأطلال والمرأة(13):
عدمنا خيلنا إن لم تروها *** تثير النقع موعــدُها كَــداء
يبارين الأسنـة مصعدات *** على أكنافها الأسَــل الظمـاء
تظَلّ جيادنا متَـمَطـرات *** تـلَطّـمُهُـنّ بالخُـمُـر النساء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا *** وكان الفتـح وانكشـف الغطاء
فالنص مكون من التقابل بين ضدين، يرمز حسان بضمير الجمع المتكلمين (نا) وحتى من خلال نفسه إلى الجماعة والهوية الجديدة، ويختصر بضمائر المخاطب الهوية المناوئة، فهما يكوّنان في النهاية طرفي الصراع. ولكن النص ينبني على شحن العناصر الجديدة الدالة على مضمون فخري ومدحي وهجائي جديد، يستند إلى الدين ويتعالق مع نصوصه، فنسبة العون إلى الله وتأييده لهم بالجند، ووجود جبريل الذي لا كفاء له إلى جنبهم، يضمر تساميا عن الطرف الآخر الذي لا ملاذ له إلا العباد الضعفاء الذين ثبتت هزيمتهم رغم عددهم وعدتهم.
إن عنصر الدين في فترة الصراع الأولى بين المسلمين وغير المسلمين، كان يشكّل تجسيدا للهوية، ويرتبط بها، وقد تكون أبيات نهار بن توسعة أكثر وضوحا للتعبير عن مكانة المكوّن الديني في تشكيل الهوية، وهي قوله(14):
أبِي الإسلامُ لا أبَ لـي سواهُ *** إذا هتـفُـوا ببَـكر أو تميم
دَعـيُّ القـوم ينصـر مُدَّعيه *** فيُلحقُـه بذي النسب الصَّميم
وما كرمٌ ولو شَـرُفـت جدود *** ولـكـنّ التقـيَّ هو الكريم
إن هذه القطعة لشديدة الدلالة على رفض الهوية الجاهلية وتأسيس هوية جديدة، فالفكر والمجتمع الإنساني يؤسس الانتماء طبقا للأبوة، وعليها يكون النسب، ومنه يرفض حصر هويته في قومه بكر، بل يضعها في مقابل هوية أكثر شمولا وحيوية، وهي الإسلام، وهي أكبر من النسب والادعاء والولاء، والشرف يتنزل في أبياته من خلال النص الذي تداخل معها، وهو الذي يحصر تفاوت الناس انطلاقا من معيار التقوى. إن هذه الأبيات يختصرها بيت آخر، أنشده أحد شعراء الخوارج، وهو عمران بن حطان، يقول فيه(15):
فنحنُ بنو الإسلام واللهُ ربنا *** وأََوْلََى عبادُ الله بالله من شكَرْ
وإذا كان الأصل الذي انبنى عليه مدلول العنصر الديني كمشكل للهوية واحدا لا يختلف عما ذكره نهار بن توسعة، وكذلك النص القرآني الذي تداخل مع البيت، فإن السياق جدّ مختلف؛ إذ ابتعد تم حصر دلالة ضمير المجموعة (نحن) في فئة خاصة، لا يدخل ضمنها المجموع الموحدّ بل فقط أصحاب منظور معين للمقصود من الاعتراف بالربوبية.
إن المسألة هنا أكبر من مجرد فرق تختلف وتتصارع، فهي منقولة من النزاع السياسي إلى تمايه مع هوية مؤسسة على العنصر الديني، ومنه لا تختلف الفرقة المناوئة عن المعسكر الذي كان يناوئ الإسلام في عهده الأول، والنص الشعري هنا يتقاطع مع نفس النصوص الدينية التي كانت تحضر في نصوص شعراء صدر الإسلام، يقول عيسى بن فاتك الخارجي(16):
أَأَلْـفَا مؤمـنٍ فيما زعمتم *** ويهزمُـكم بَآسِكُ أربعُونـا؟
كَذَبتم ليس ذاكَ كما زعمتم *** ولـكنّ الخـوارجَ مؤمنون
هُمُ الفـئة القليلة غير شَكّ *** على الفئة الكثيرة ينصرون
أطعتـم أمـر َ جبار عنيد *** وما مـِن طاعـة للظالمين
إن هذا النص مهم جدا؛ إذ يرسم انتقال خط المنحنى البياني إلى مؤشر آخر في مؤشرات دلالة العنصر الديني على الهوية، لكن الغريب أنها نفس الهوية التي يتبناها الطرف المناوئ، إلا أن تأويل الشاعر للعناصر العقائدية الأساسية جعله يحصرها في فئة الخوارج فقط، فهم المؤمنون، وحادثة ثبات أربعين رجلا من الخوارج أمام ألف من جنود الخلافة الأموية، تنقله إلى حالة يعيش فيها الماضي المضيء والمثالي حين ثبتت الفئة القليلة في بدر أمام الكثرة المشركة، وينفتح المقطع على النص القرآني ﴿كَمْ مِن فِئة قليلةٍ غَلبَتْ فِئةً كثيرةً بإذنِ اللهِ وَاللهُ مع الصّابرين﴾ [البقرة، 249]، بل وكذلك مع مفهوم الطاعة، وصورة الجبار العنيد في القرآن الكريم وهو يُجَر إلى النار ﴿واسْتَفتَحوا وخَابَ كلَّ جَبارٍ عَنيد﴾ [إبراهيم، 15]، كما يحضر نص مركزي قد يشرح نواة الأبيات كلها، وهو الحديث الذي يمنع من طاعة الظالم؛ ذلك أن الموقف حوّل من محض المنظور أو الاختيار السياسي إلى التوجه الديني.
فرغم أن مذهبهم سياسي في حقيقته "إلا أنه مؤسس على فكرة دينية"(17)، وقد لاحظ أحمد أمين أهمية العنصر الديني في أدب الخوارج عموما(18)، لكنهم لم يتمثلوا فيه العنصر الديني على نحو المذاهب الأخرى؛ إذ لم يكن شعورهم الديني "شعور المفكرين المتفلسفين، وإنما كان شعور أعراب سُذّج لم يدرسوا ويبحثوا، أو يعللوا ويحللوا، ولهذا لا نجد في أدبهم جدالا أو دفاعا بالحجج والبراهين، وإنما نجد نغما دينيا قويا في إيمانه"(19).
فنصوص الخوارج تعاملت مع العنصر الديني انطلاقا، لا من التركيز على المرسل بل على الرسالة نفسها، ومن ثمّ لم يعنِهم الجدل والنقاش العقائدي أو السياسي الدائر بين الفرقَاء، وإنما من خلال دلالاته الأساسية التي تفترض منظورا شاملا للواقع، ومنه الغربة التامة التي يصورها شعرهم والانقطاع الكبير بينهم وبين الآخرين، وهو ما أفضى إلى رفض للهوية التي لم يعودوا يعرفون فيها المنظومة العقائدية التي شكلتها في البداية، فبرز مضمون آخر، يلح على هوية جديدة، هي هوية الخارجي أو المؤمن كما يسمونه.
لقد قال أحد الخوارج (الأصم الضبي) يرثى قتلى إحدى المواقع(20):
إني أُدينُ بمـا دان الشّراة به *** يوم النخيْلَة عند الجَوسَق الخربِ
النافِريـن على منهـاج أولِهم *** من الخـوارج قبل الشك والريب
قوما إذا ذُكّـروا بالله أو ذَكروا *** خرّوا من الخوفِ للأذقان والركَب
سَاروا إلى الله حتى أنزلوا غُرَفا *** من الأرائـك في بيت من الذهب
إن المكونات الأساسية لهذا المقطع تشرح الصورة التي تحول إليها المكون الديني في هذا الشعر، ولفظ (الديانة) و(المنهاج) معادل تام وشديد الدلالة على الهوية؛ لأن المسكوت عنه فيه، إنما هو ما يفصل بينه وبين ما يدين به الآخر، وليست الصورة المرسومة للخارجي في شدة التعبد إلا ربطا للهوية بأصولها في مدونة المنظومة العقائدية الإسلامية؛ فكأنهم هم المقصودون بالصورة القرآنية للمؤمنين ﴿قُلْ آمِنوا بهِ أو لا تُؤمِنُوا إن الذين أُوتُوا العِلمَ من قبْلهِ إذَا يُتْلَى عليهمْ يَخِرّون للأذْقَان سُجَّدا. ويقُولونَ سبحَانَ ربِّنَا إنْ كانَ وعْدُ ربِنا لَمَفْعُولا. ويَخِرُّونَ للأذقََانِ يَبْكونَ ويزيدُهمْ خُشُوعاَ﴾ [الإسراء 107 - 108 - 109]، فالتكثير من العبادة والخشوع يميز المجموعة وكذلك الموت في سبيل الله، ولهذا ازدحم متنهم الشعري بطلب الموت والإقبال عليه.
وقد لخص صورة عامة لأدب الخوارج وبعبارة وجيزة، المرحوم إحسان عباس، الذي رأى أنه(21): "لون من الشعر زهدي ثوري جامح، يُكبر الإنسانَ الخارجي إكبارا شديدا، لأن كل إنسان ذهب في سبيل العقيدة يُعَدّ شهيدا، فهو المثل الأعلى في نظر أصحابه بعد استشهاده، وهو الذي يستحق الرثاء والبكاء، مثلما أن الجماعة الخارجية هي العصبة المثالية التي تمثل الحق، فهي إذن تستحق المدح والثناء؛ ومن ثَم كان موضوع هذا الشعر هو الإنسان - الإنسان الخارجي على وجه التحديد، والمحرك الداخلي فيه هو روح التقوى المتطرفة، فهو لذلك أدب قوي يزيد في قوته شدة التلازم بين المذهب الأدبي والحياة العملية". ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن ثورية هذا الشعر تختلف كثيرا عن المواقف الثورية التي عاصرته؛ إذ أفضت إلى القتال ولكن انطلاقا من عقيدة ترفض مشاركة الآخرين في هوية انتهوا إلى كفر أصحابها، أي أن حماستهم على حد تعبير شوقي ضيف "لا تحركها العصبيات القديمة، عصبيات القبيلة التي كانت تقوم على الأخذ بالثأر، وإنما تحركها عصبية حديثة لعقيدتهم السياسية التي تعمقتهم مؤمنين بأنها تطابق تعاليم الدين الحنيف"(22)، وهذه العصبية الحديثة للعقيدة السياسية التي تمظهرت في خطاب شعري ديني كان يرمز إليها شعارهم الشهير (الحكم لله).
لكن إحسان عباس أضاف في عبارته السالفة وصف أدبهم بالزهدي، والحقّ أن مدلول الزهد مختلف كثيرا عن المتوسّل الوعظي والحكمي الذي انتهى إليه شعر الزهد؛ لأن مدلوله الأساسي مرتبط بموقف الرفض والتماهي السياسي مع المذهب والهوية الجديدة. فرفض الدنيا ليس للتركيز على العبادة بصورة مطلقة أو ذاتية تأملية، وإنما رفضها لأنها أيقونة دالة على الهوية المناوئة الظالمة والحاكمة في الغالب. لقد قال عمران بن حِطان للفرزدق لما سمعه يمدح(23):
أيّها المـادح العبادَ ليُعطَـى *** إن للــه ما بأيـدي العبـاد
فاسألِ الله ما طلبـتَ إليهـم *** وارْجُ فَضـلَ المقسّمِ العـوَّاد
لا تقلْ في الجواد ما ليس فيه *** وتُسـمّي البخيلَ باسمِ الجواد